إن الذي كتب اسم أبي على شاهدة قبره لئيم، كتبه بنفس خط الرِّقعة الذي كان أبي يكتب به اسمه على أوراقنا الرسمية كولي أمر. للحظة وأنا اقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين، باغتني قلبي بنبضة جهنمية، كأن أبي من كتب نموذج الشاهدة قبل أن يرحل..
أمين عبد الحليم أصلان.
عمتي حكمت على عتبة دارها، تتحسس الأرض لتعرف مكان "مَدَاسها".
"كان هنا"، قالت.
نهَضَت عندما شعرت بكف أمي تساعدها على النهوض، قالت: "انتِ مين؟"
احتضنتها أمي ولم تجب.
فأخبرتُها: أنا داليا بنت أمين يا عمَّة.
"حبيبي يا ابني" (تعني أبي)، كانت عروسا حينما وضعته جدتي.. "وأمك فين؟"
قلت لها: "أمي اللي ف حضنك دي، أنا جنبك"، وأمسكتُ يدها.
بالطبع أمي تبكي، حتى أنا، المتماسكة السخيفة معظم الوقت، انفجرت بالبكاء. عمتي التي قد فقدت بصرها مؤخرا تشق طريقها القديم المعتاد من صدري إلى ذاكرتي. من ابتسامات النضج، إلى حصون رمل الطفولة التي دججتُها بكل القسوة والتناسي. أفلتَتْها أمي، وتلقفتني هي: "داليا؟؟"
قبّلتني فوق كل خد سبع قبلات، "حبيبي يا أمين.. بتعيطي ليه؟؟"
عَلا صوتي بدمع صبياني لم أملك صده: "أصل انا لسة جاية من عنده عمّة.. والبقاء لله ف بدر"
قالت:"وفتحي.. وجمال.. ومصطفى"
صمَتَتْ لحظة، بحثتُ عن الماء في بياض عينيها، نظرت هي أيضا إليّ مباشرة وكأنها تراني، قالت:"نشفوا يا بنتي.. العيون نشفت، التلات عيال ماتوا ف حياتي، حرقوا قلبي.. وأبوهم، وأبويا، وأمي، وأمين، بس والنبي حسيت بدخلته عليا فيكي.. هاتعاودي تزوريني زيه؟"..
رشفت سوائل أنفي، جففت وجهي بكل المناديل التي أحملها، وبأطراف حجابي، قبلت باطن يدها التي على وجهي، لانت ملامحها بتقطيبة تأثر، لم تقل شيئا، فأجبتها :"أكيد هازورك أكتر منه يا عمّة.. ما تقلقيش".
لماذا لم أبكِ في بيت أختها الأصغر الليلة التي سبقتها؟، كانت تراني، وبكت، وتذكرت "دخلة أمين عليها".. لكنني واسيتها بهدوء، ربتتُ على كتفها، وابتسمت، هنأتها بزواج ابنها، سارت معنا "تسلّك السكة"..
تمنت لنا ليلة سعيدة، نفس الليلة التي قضتها أمي تستدعي من التاريخ قصصا لم تروها بهكذا تفاصيل من قبل، ختمتها بـ "كبرتوا.. خلاص ماعادش أسرار.. إعرفونا".
ثم كان الصباح الذي قرأنا فيه "تبارك"، لأنها تضيء قبور الموتى، رأيت خط الرقعة، وبكيت في بيت حكمت، ورُسِمَت قصة أمي على بيوت حارة الشيخ..