حاولت أمي في تلك الإجازة تزويج عمي صلاح من ابنة عمها المثقفة الجميلة، معلمة الفلسفة. كانت حقا جميلة جريئة تقص شعرها الأشقر الناعم "آالا جارسون"، ترتدي الفساتين ذات الفتحات الواسعة عند الرقبة والأكمام القصيرة المنسدلة، الصنادل آخر موضة، العقود اللؤلؤية والخواتم الكبيرة، تتحدث بلهجة قاهرية واضحة، في كل الأحوال لم يكن بإمكانك التعرف على أصلها القروي من مظهرها. ثم ما تفتأ بخفة لا إرادية تفتح الأفعال المؤنثة:"احمرَّت"، "اتظَلَمَت"، "اتنرفَزَت"، حتى تلمس نشأة مركز أجا في الكلام.
كانت لها نفس ميول عمي صلاح في حب ناصر والثورة، الاشتراكية، الوطنية، أزمة اليسار، وتلك النغمات التي كانت قد بدأت في الانسحاب من حياتنا يومها تدريجيا. سنها كبير أيضا يناسب وضع عمي صلاح، ولأسابيع ليست بالقصيرة التقيا في بيتنا لقاءات منسجمة بديعة، كنتُ أنظر إليهما وأتخيلهما في شقة عمي بمصر الجديدة وأشعر بأن هذه المرأة جديرة بالرجل، وبالمكان. لم أفهم وقتها لماذا انتهى ذلك الحلم بسرعة، فجأة تعنت عمي صلاح عند نقطة لم أستوعبها، كما انقطعت زيارات طنت إحسان. امتنع أبي تماما عن التعليق أو التدخل، ومثله فعلتا أمي وجدتي.
في تلك الفترة لم يكن هناك من هو أقرب من عمي صلاح سوى عمي صلاح. انشغل بعمله فوق ما هو معتاد، عدد معارفه الذين صاروا يتقلدون مناصب غريبة يزداد عاما بعد آخر. كنا نسمع عن ترقية فلان إلى لواء قبل خروجه من الخدمة، ثم يولونه منصب محافظ محافظة كذا ولينتظر مصيره القادم مع حركة تغيير المحافظين. شواطيء البحر الأبيض بامتداد ساحلنا الشمالي ومرسى مطروح، البحر الأحمر، صحاري كبيرة تمتد من القاهرة إلى الإسماعيلية، مساحات مقفرة شاسعة صارت تحت إمرة اللواء علان واللواء ترتان، ثم بدأت هجمة بناء المدن الجديدة، والقرى السياحية في نفس الأماكن.
لسبب أو لآخر لم يتم تسريح عمي صلاح، ولم يتولّ أية مناصب خارج الجيش أو فيه، ظل كما هو بترقياته المنتظمة العادية، محاضراته في الحربية، جلساته مع خالي ينضم إليهما أحيانا سعد فواز. وكان قبيل نهاية حياته مولعا بطهي الطعام الصحي بنفسه، في مطبخه، بشقته الفخمة الفسيحة، ومع ذلك ازداد وزنه على نحو غير منفر، ولإسكات المعلقين على هذا التغيير كان يردد غالب الوقت عزمه على إنقاصه مرة أخرى، لكنه أبدا لم يفعل.
في أواخر أيامه كان عصبيا لأسباب بسيطة في الحوار، أو هادئا عقلانيا باردا بغرابة تروق لأبي أحيانا، لكن ليس لي أو لجدتي أو لعمي فهمي.
في نهاية ذلك الصيف مات صلاح فجأة على إثر حادث سير في الطريق الصحراوي، قالوا كان مسافرا إلى الإسماعيلية بسرعة كبيرة حين انحرفت به السيارة عن الطريق واصطدمت بشجرة. وبعد ما افقت من صدمتي في فقدان أحب رجل إلى بعد أبي حاولت جاهدة تخيل شجرة في طريق صحراوي تختار في تلك اللحظة النحسة الوقوف في سكة سيارة 128 بيضاء بطيئة فتقتل قائدها.
"كنت عارفة انهم هايقتلوه ، اسأل اخو مراتك، كان عامل لهم مشاكل التلات سنين اللي فاتوا بسبب تقسيم الأراضي بينهم"، قالت جدتي لأبي بعد عودته من القاهرة حيث تسلم دروع وشهادات ومستحقات عمي من الجيش، وكان قد دُفِنَ منذ شهر.
"ما معاناش دليل يا ماما، حتى الكشف الهندسي بعد ما قال في شبهة مشكلة ف تيل الفرامل، رجع قال لك لأ سليمة". بابا
"أخوك مات مقتول مش صدفة يا شهدي" جدتي
"يا ماما.." قال أبي.
"خليك جنبها..أخوها اللي قتله". جدتي
كان نجم خالي حسين قد علا قبل ذلك العام، تحولت ترقياته إلى ظهور في المناسبات العسكرية الكبيرة على التلفاز، ونفوذ وشهرة وأموال.
"حسين ما يعملهاش..أنا.." يقول ابي.
نهضت جدتي، دخلت غرفتها، وأغلقت الباب. زادت العداوة المبطنة بينها وبين أمي.