ميّزتُ بسرعة لماذا
ذكّرني الرجل بجَدِّي، جلبابه الصوفي الثقيل في شهر أغسطس أشعرني بتضاعف حرارة
الجو وأنا أراقب نهايات شعره الحادة، محلوق حديثا، ليلة أمس مثلا. علامات موس
الحلاق ملتهبة على قفاه. خمريته، وتجاعيد الشمس تقول أنه انحنى على زرعه لأعوام.
هذا المشهد أعرفه تماما في فلاحينا. تحرك الرجل باختيال من يرتدي شيئا فخما نحو
محل العصير المقابل لسور المستشفى، الأفندي الذي يرافقه دعاه إليه، كانا غير راضيين
عن حال قريبهما المريض اللذان خرجا من زيارته للتو.. سيموت.. كنتُ عائدة من محل
الحلويات.
في صباح تالٍ، أنتظرُ
باص ابنتي، عند زاوية السور جلست شابة عشرينية على الرصيف صامتة، عيونها متورمة من
البكاء، ترتدي فستان سواريه من حرير نبيذي موَبَّر، ودانتيل ذهبي من نوع رخيص، بدا
أنه غُسِل مرارًا في الغسالة الإيديال اليدوي. هبّت واقفة والشاب المتواضع المظهر
يقترب منها، سألته بلفظة "أمي" عن المرأة المحجوزة في المستشفى، هو أيضا
قال "أمي"، بكت الشابة من جديد بحرقة، تلاصقا كزوج وزوجة، كان الوقت
مبكرا وشارعنا شبه فارغ، لم أعرف المريضة أمه أم أمها، لكنها لن تعود إلى البيت
اليوم معهم.
كنا قرب منتصف الليل، اضطررت
لشراء بقالة، لم أجد بُدًا من التمشية إلى فرع المتجر الكبير المجاور. مشهد مدخل
الطواريء المسدود بسيارة ربع نقل عليها مُراهِق ينزف كالذبيحة أنساني وجهتي،
المستشفى ترفض استقباله وأمه تنوح، الشرطة موجودة، يقف فجأة مترنحا على صندوق
السيارة: اتركوني..سأقتله. يطفر دم أكثر من عنقه وأكتافه، تنفجر الأم بقهر: إلهي
يحرق قلب أمه عليه..وأراه راقدا مكانك يا مصطفى.
يوم الجمعة قبل الصلاة
هرولتُ بأطفالي نحو مخرج الشارع لنلحق بموعد التمرين، كنا قد اجتزنا سور المستشفى،
فإذا بامرأة منتقبة تقابلنا بعويل سمعت صوت الفقد فيه:حبيبي ياااابا.. دمعتُ وهي
تتجاوزني متجهة لسيارة الإسعاف مفتوحة الأبواب، تحاول فتش كفن الميت، والصعود
لتقبيله، منعوها من كشفه، منعوها من العويل، خلعت غطاء وجهها وجلست على الأرض تلطم
خديها بفجيعة، لم تكن شابة. قالت:"أخرجوك من بيتك لتموت في هذه
الخرابة".
أسوي قميصي الأفرنجي فوق
بنطلوني الچينز كل يوم، أستعد لقصة أعلم أنها تلقيني في عمق المأساة
كل مرة. أضبط حقيبتي على كتفي، ألمع زجاج نظّارتي، أفتح بوابتنا الكبيرة، أراقب
الشجر القديم الكث يهتز بثقل عمر الحي، أتذكر قول زوجي حينما قررنا الانتقال للعيش
هنا: المكان هادئ، الجيران مسالمون، وبجوارنا مستشفى دولي.