أحاول نسيان ذلك الجرو

 لا أدري من أين يأتي كل ليلة في هذا الموعد. يقف تحت شرفتي التي ترتفع عن الأرض خمسة طوابق، في مفرق الطرق، مشدود الجسد، منتصب الأذنين، مرفوع الرأس والذيل، عيونه تلمع بلا معنى محدد تحت ضوء العمود. 

 نَبَح نباحا متصلا موجعا في الليلة الأولى فظننته يتيما يبحث عن أمه، أو مشردا يصرخ من البرد والجوع. أصيخ السمع وآمُرُ أولادي بالسكوت، جائع بالجوار يا أطفال، اللهم خفف عنه. تقول ابنتي: جائع وكل تلك المقاهي والمطاعم وحاويات القمامة في حيّنا؟ إن نباحه أقرب للفقد منه للجوع، بنباحه صحة ليست على تيس في ضِعف عمره. 

في اليوم التالي كان يعوي بهلع وكأن الشيطان ممسك برقبته. الصوت يخرج مطويا من أنفه، وربما أفلتت أنّة من بين أسنانه المطبقة، ثم ذوى الصوت، وتثاقل الزحف، فقلتُ مات. 

نمت منقبضة الصدر، أحاول نسيان ذلك الجرو لأكمل حياتي بلا حدث جديد غائر يَخِزُ أيامي بشوكة إضافية. نمتُ وأنا أقنع نفسي بأن كل كائن له قَدَره الذي سيظل يحمله/يتحَمّله وحده، وأن وقفته لا توجه إليّ رسالة. لو أننا تبادلنا الأدوار لما استطاع أن يساعدني هو، لم أطلب منه في داخلي أن يغفر لي، ولم أسأل السماء "لماذا"، تلك سُنّة فرضت علينا، وقانون الحياة رغم سخفه صارم.. 

بزغ نهار جديد لا يشبه النهار، مطر شديد، أحتَضِنُ طفلي المحموم وهو يهلوس، يتألم. أخبَرَني وهالات عينيه تبتلع وجهه الأصفر أنه مَلّ المرض، دمعت عيناه، وضع يده على أسنانه يطمئن أنها في مكانها، إبتسمَ وهو ينظر لي، يستسلم للنوبة، بردان يا أمي. أضمه أكثر. 

حينما سطعت الشمس، بعد يومين، قررتُ أن أشتري خيطا، وأحيك سترة. أريد أن أصنع بيدي ما يقول أن ليس كل شيء من حولنا يتهدّم ويموت، مازال باستطاعتنا البناء. عرجت على صديقتي في طريق العودة، نُزِع من حديثنا شيئ كان طيبا من قبل، أنا شاردة، هي شاردة، غادرتها وأنا أشعر بمحبة، وشيء ينقصها من أطرافها، وبأن في هذا العالم لعنة، التوقيت لعنة. نظرت إلى فناء البناية الأبيض والأسود، نعم، التوقيت لعنة.

عاد صوت الجرو ليلتها، فتدثرتُ بشيء قريب، وبحثت عن نظارتي فوق المكتب، وخرجت له. بسطتُ كفا واحدة على حافة الشرفة الباردة وقد أسندت ظهري على الحائط المجاور، وكأنني أنتظر مسرحيته التالية. سألته عن عرض الليلة، تحققت من صوته ومن أداءه، إنه هو. كان مختالا يترنح في الشارع الفارغ، وكأنه يقول للطريق: ها أنا قد عدت. قفز تحت العمود عدة قفزات يطارد ذبابا غير موجود، يتمرن على رذالات الحياة، يعوي عواءً طويلا في المفارق وكأنه يختبر الصدى، أو يستدعي الأعداء، هل من مُنازِل؟. لم يأتِ أحد، أقول له: غدا سيأتون، قانون الحياة صارم رغم سخفه..

 كان عرض الجرو متطورا، ظلّ يضايق القطط المتكومة قرب بعضها، تبحث بين السيارات المغطاة بمفارش مقاومة للتراب والمطر عن الحرارة و الوَنَس. يثب بقائمتيه الخلفيتين ثم يهبط على الأماميتين مادًا أنفه نحوهم مصدرا "زنّة" كصوت الدمية. ينتفض أحد ذكور القطط مقاطعا هدوء الليل بصرخة غضب عالية مفاجئة، يعود الجرو للوراء خطوة، يعبث بأطراف المفارش، يحرك علبة فارغة من مكانها، يعود القط للنوم بين عائلته، يعود الجرو لإيقاظه. 

دخلتُ حين تيبست أطرافي من البرد، وافتقدتُ دفء طفلي الذي يقاوم مرضه بسماع قصة "حي ابن يقظان". 

"ذلك الكلب سينجو"، قال ولدي ولم يرفع عينه عن اليوتيوب، "أنا أشعر به"، يكمل..

 "كيانات كبيرة تموت بالسكتة، مخلفة وراءها خسائر خرقاء، ما أذكى أن تعيش في الحياة تراوغ وإن رآك الآخرون بلا قيمة".

أنزع الدثار عن رأسي وأكتافي ولا أحاول أن أقول شيئا، سيّان، أنا لن أمنع المحتوم، لكل ميزته وعيبه، لكل قَدَرُهُ الذي سيتحمله وحده.. فلنستمر.