رواية "بنت محمود" عالم غرائبى واقعى فاتن.
قراءة "بنت محمود" الرواية الجديدة للأديبة داليا أصلان متعة في حد ذاتها. أما إذا قرأتها موصولة بروايتها السابقة: "المختلط"، فالفتنة موصولة وممتدة بين العملين.
رغم ذلك، فالرواية مجهدة لأنها من الأعمال الأدبية طويلة النفس، وتقع في 367 صفحة، ومليئة بمئات الشخصيات والأحداث والأمكنة، تقدم في النهاية عالما متكاملا في شكل روائى بديع شائق مع مضمون مشبع بالدلالات الإنسانية. أقامت البناء الهندسي للرواية على محور رأسي ومحور أفقى.
الشخصيات هى المحور الرأسي، والأمكنة والأحداث هما المحور الأفقى. وعلى طول صفحات الرواية يحدث التقاطع بين المحوريين، يغذيهما الفن الروائى بالأحاسيس والمشاعر والسلوكيات وحكمة التجربة وغرائب الحياة .
قدمت لنا داليا أصلان رواية محملة بالجديد عن واقع لم نعرفه تمام المعرفة من قبل، وقدمت جوانب جديدة عن الإنسان المصرى المعاصر، لم نعرفها من قبل، وقدمت جوانب عن المرأة المصرية لم نعرفها من قبل.
لقد أجادت الروائية في (فك الشفرات) في حياة العائلة المنصورية وفى علاقة البطلة (س) بمن حولها في سبها في ليبيا وفى مدينة نصر بالقاهرة.
فك الشفرات من خلال تجميع وفرز واستنباط الدلالات من عوالم لها كينونتها الخاصة، مثل محال الكوافير ومراكز التجميل والبيئة الصحراوية في ليبيا ودنيا الجيل الجديد من الشباب باهتماماته الخاصة ونوعية حياته البعيدة تماما عن دنيا الكبار سواء في لغة التعبير أو الانضواء على الأسرار أو الاختلاف في السلوك وتكوين حياة مشاعية أشبه بالكوميونة لها جدول حياتى خاص.
ويقول "أندريه مالرو":
"إن الرواية الحديثة في نظرى ليست مجرد إيضاح أو شرح أو تفسير للإنسان الفرد ، إنها أداة للوعى الميتافيزيقى. إنها العنصر الوسيط الممتاز للتعبير عن العنصر التراجيدى في الانسان".
وينطبق رأى مالرو على هذه الرواية بالدقة.
فالمكان هو بؤرة الأحداث، (المنصورة/المختلط/الحسينية) الكل يذهب ويعود لنفس الإطار المكانى، والمكان هو مصنع الهوية. تُفصل الروائية المكان من الخارج.. فتكتب عن حجارة الشوارع وأسماء المدارس والبوسطة وكأنها تؤرخ للذاكرة الوطنية، ثم تتحدث عن الأبنية التى تتحول لركام.
"عندما خرجت من الصيدلية وقع بصرها على هيكل القصر المحروق. لم يبق منه إلا العظام. أين القبة والقرميد، الأخشاب الثمينة للشرفات والسلالم أو التماثيل وألواح الرخام. أشعر أننى شخص آخر أو أننى تفصيلة شاذة في صورة جماعية لحياة لم يعد لى مكان فيها. وأنا أقاوم".
وفى موضع آخر تشرح أن القصر تحول إلى خرابة ثم وكر لتناول المخدرات واقتسام السرقات والدعارة .
وتصف الروائية كافة الشخصيات التى تناولتها مركزة على ذلك العنصر الدرامى للإنسان. كل الشخصيات مأزومة، بين القدر وبين الإرادة الفردية. مرة يكسب القدر (عندما تتزوج من يحيى ) ومرة تخسر الإرادة الفردية (حادثة وفاة يحيى وضياع قدم طيفور).
وعدد الشخوص يتعدى المائة، ولكن الوصف من الخارج والداخل عميق ومؤثر يشرح التناقضات والتداخلات والفروق والطبقات المختلفة داخل كل شخصية، ثم هذا التنوع الهائل فيما بين المائة شخصية، فسماح غير سناء وغير يحيى ورجائى وشعبان وهدى وماهر ومدحت وطيفور ومحمود وكيرى وهشام وغيرهم وغيرهم.
وتُعلمنا الرواية أن كل شخصية في حياتنا مليئة بالمشوقات والأفكار والسلوكيات والأفكار والأحلام والضنى، وسيظل الإنسان محمل بالمثيرات وطوال الرحلة التى تتجدد ولا تقف عند حد معين.
الأحداث كلها تعبير عن ثلاثية الأماكن والشخصيات والأقدار. تقاطعها طوليا شبكة معقدة من المشاعر والأحاسيس والهواجس والأحلام المنكسرة والرغبات المأزومة والفهم واللافهم.
وتدور الأحداث في جو غرائبى، يكاد يكون كابوسيا في معظم الأحيان. أصدق مثال على ذلك الأحداث المقترنة بالمشاهد الجنسية ولعل أخطرها وأجملها في نفس الوقت هو مشهد (الصهريج).
ولعلى أتوقف عنده قليلا، لأنه مبتكر..
يأتى المشهد طبيعى للغاية في سياق الأحداث. أربعة صفحات تمثل ذروة في حد ذاتها. الصهريج متآكل، به قدر من العفن، يقف على حافة البحر، يمتلئ بالماء، يدخله يحيى و (س) بسيارتهم يتحول إلى مركبة فضائية تسبح في المجهول اللامرئى، لم يعودا يباليان بأى شيء وتحدث المضاجعة بإحساس جميل مختلف.
الحدث الآخر الجديد من نوعه لحظة ولادة (س) لابنها طيفور أثناء استعمالها حمام بلدى في منزل بدوى في سبها بليبيا ويقوم بتوليدها عجوز شيخ، في تصوير مذهل بالفعل للمشهد الحدث.
وهكذا على مدار النص يتوالى الوصف المبتكر لمشاهد وأحداث جديدة من نوعها وغير مكررة وهو ما يعطى المؤلفة الأصالة والجدارة في طرح الجديد على المتلقي.
ويقول الروائي القدير محمد جبريل :
"إن مجرد التكنيك الجيد والانفعال الصادق ليس ما ينشده القارئ في الفن. إنه ينشد فلسفة معينة أو بعدا نفسيا أو دلالة إنسانية"
ونص "بنت محمود" معبأ بالدلالات الفلسفية والإنسانية. فطول عدد الصفحات معادل لطول المعاناة الفردية والجماعية وتتوزع المعاناة على حجم هائل من التفصيلات والمنمنمات لإبراز مدى استغراق الناس وأعضاء الجماعة الوطنية في الأمور الحياتية ومن ثم تختفى قضايا الوجود . لا حديث عن الماوراء إنما الواقع هو الأقوى الآن وهو المسيطر.
وتجليات الواقع بتفصيلاته تعبر عن مدى التحولات المركبة التى تغير مسارات جميع شخوص الرواية وقد أبدعت الروائية في تشكيل تلك التجليات والتحولات وفى الصلة القوية بين الخاص والعام. كل ذلك دون رطانة سياسية أو التمسح في أيديولوجيات.
تقول في وصف رجل سياسي فاسد مستبد قاهر:
"لم أصدق يوما أن هؤلاء يشتهون عن حب وانجذاب، إنما هو الإخضاع، ضغطت الحياة عليهم من أقذار سابقين حتى أثقلتهم قيح جروحهم ، وحينما يصبح باستطاعتهم إطعام هذا القيح لمن هم أقل منهم سطوة، يفعلون".
أو عندما تقول:
"إن قواعد اللعبة (داخل المجتمع ) لا علاقة لها بالأخلاق أو الضمير أو الرحمة ولا بالذكاء ولا بالمال واللقب إنما بالسلطة، القبضة، بمن يملك قوة التنفيذ ويبقى طويلا"
لا تكتب داليا أصلان للتسلية أو الاستعراضية أو التعبير الأجوف عن الذات ، إنما الكتابة مسئولية، والتزام وتقدير عميق لقيمة الأدب.
عن الأسلوب والصياغة:
الرشاقة والعمق والدقة والإيجاز غير المخل وتضمين الدلالات الإنسانية والفلسفية، كل ذلك عنوان عريض لأسلوب الكاتبة.
تستخدم تكنيك الاستدعاء للشخصيات والحوادث بشكل مؤثر وفى محله دوما. فالحوار حاضر بين أمس واليوم بين الراوية ومن هم حميمين لا يغيبون ويراوحونها في أشد اللحظات درامية.
وأسلوب الكتابة يمكنها بلغة أدبية رصينة أن يحول كل حكاية صغيرة أو كبيرة في الواقع المعاش إلى لوحة تشكيلية مليئة بالأبعاد الأدبية فترتفع بمستوى الحياة العادية إلى أعلى وتكشف ما وراء العادي بكل ظلاله العميقة وقيمته.
وترتيبا على ما تقدم، يتصاعد الجو الروائي من المثالي البسيط إلى المركب ثم الكابوسي في الثلث الأخير لنصل إلى الظلمة واللامعقول مع النهاية .
وتمسك داليا أصلان بحنكة بقوام النص من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة دون لحظة تراخى أو فجوات أو هنات قيادة سلسة للأحداث والشخصيات والأحاسيس والمشاعر والهواجس، من خلال عبارات شفافة كاشفة موحية محكمة التكوين.
انظر عبارتها وهى تتحدث عن الشجار بين سماح وسناء:
"تحدثت سماح بصوت هادئ متوتر، وسناء على العكس، غضبها عات رافض متوعد وبكاؤها مقهور"
أو عبارتها عن صداقة الطفلين: "علاء وطيفور إصبعان في علامة النصر أو شريكان في مصيبة أو كذبة"
ولعل الصفحات من 166 حتى 185 والتي تمثل مجموعة متكاملة من فصول متتابعة في وحدة واحدة تعبيرا عن ذروة تعاسة محزنة وقاسية .تصطاد كآبة القارئ، إلا أنها تحوز إعجابه وشجنه وتماهيه معها لجمال الوصف والارتفاع بالسرد الأدبي لأعلى مستوى.
وهكذا تنفرد الروائية بلغة خاصة رصينة تتلون بألوان المشاهد ومستوى الشخوص فهي مختلفة بين أعضاء العائلة البورجوازية عن الخادم السابق شعبان أو كريمة أو إلهام .
ومن هنا تتحقق للنص "لذته" ناهيك عن قيمته الأدبية والاجتماعية والإنسانية الرفيعة.
تحية للكاتبة داليا أصلان على إبداعها في "بنت محمود" والتي أتمنى لها أرفع جوائزنا الأدبية .
عمرو كمال حموده