قبل أن يرحل المكان




كان ذاك الجذع لشجرة كافور. وكانت تجاورها أشجار سنط قبل قاعدة العامود الرخامية تلك، والتي لا أدري متى، ولا من أين أتت.

وكان على يمين الكافورة شجرة "أم الشعور"، وكنت في مراهقتي أستطيع تمييز إسمها الفصيح، صفصاف؟، زيزفون؟. لم أعد الآن أستطيع.

من البداية..

كنتُ حينما بَلغَت ابنتي الرابعة أسعى خلف مدرسة غير حكومية، ولا تدرّس اللغات. ذلك حين طردني الموظف المسئول عن تنسيق رياض الأطفال، لأنني راجعته في صحة أوراقه. ملف مقيد به إسم ابنتي كمقبولة، وملف آخر كمرفوضة. وحينما اقتربتُ من تفسير طلسم الوساطة بصوتي المدهوش المرتفع، طردني.

لا عليه.. لم يكن وجهه مريحا على أيّة حال..

لا عليه، ولكنني عُدْتُ حزينة ..

ألن تدخل هذه الأميرة الصغيرة المدرسة هذا العام؟..

لقد فرغ رأسي يومها تماما إلا من هذا السؤال..

السؤال الذي طَنّ في أذني، ودمع في عيني، وتردد في الفضاء.

كانت قد رُفِضَت من كل المدارس لصغر سنها. وكانت تلك المدرسة الأخيرة. وقبل أن أدرك كنتُ قد وصلتُ بها، إبنتي، سيرا على الأقدام، إلى حدود الحي. الحي الجديد، الذي كنا قد انتقلنا إليه قبلها بشهور. الضاحية المستقطعة من زراعات زمام سندوب لتصبح ڤيللات ومنازل خاصة لتجار جملة، وقضاة، وأطباء، وضباط جيش، ومدرسين بالخليج، وأساتذة جامعة.

أنّت البنت بقول ناعس خفيض حول قدميها اللتين أتعبهما المشوار. تركتني وجلست على شيء، عرفتُ حينما عدت بوعيي للواقع أنه حجر. حجر مربع مهذبة أطرافه بكعب فأس. كان هنا ذات يوم فلاح. ثم حجر آخر بجواره، وحجر، وأحجار. إنها تحويطة حول "قناية". غدير صغير لم يعد له منبع، ولم يظهر له تصريف. عند ثلثه الأخير تقف "أم الشعور". تُسقِطُ فروعها الرفيعة في الماء، ويسحبها المجرى. تسلم النظر إلى ظل الكافورة يسارا، ثم شجرات السنط التي تخفي خلفها "الشُّونة".. شونة القطن.. نعم.. رأيت الأجولة الكبيرة المخيفة يومها بعيني، وجَرّار الشد والتخزين، القديم الصديء، وميزان القباني، وأرضية خشب الصناديق التي تفرش الجُرن المسقوف بالبوص، وجدران الطين التي تحيط بمنامة الخفير، ومن خلفها زراعات "سندوب" الواسعة، حتى مَخرَج المنصورة.

ضحكت ابنتي بحماس من لم تمشِ مسافة كالتي قطعناها. طارَدَت أوراق الكافور على الأرض، ونظرت لفروعها في السماء، كانت بجوار الطبيعة قزمة سعيدة. سألتني عن إسم كائن الضفدع، وسحلية الزرع، والفأر، واليمام، والصقر الذي حلق عاليا، ثم آبَ إلى عشه فوق نخلة مرتفعة، وحيدة، بعيدة. نَظَرت إليّ وقد تشعث شعرها الكستنائي الخفيف، قوّست جفنيها العلويين في أبتسامة ملء العالم، ولثمت خدي.

ألن تدخل هذه الصغيرة المدرسة هذا العام؟

الحزن في إجابة ذاك السؤال جعلني أدور في فلك الرفض، أنا مُصِرّة على أن ألحقها بمدرسة. فكانت المنصورة التجريبية للغات الفرنسية. تبنتها المديرة كطفلة، وقضية. كنَبْت إنسان علينا تنشئته مرتاحا مقبولا كريما. وتشاء الأقدار أن مباني المدرسة بسورها المنخفض المحيط بملعبها الظليل الكبير تستلقي بين حقول الأرز، والقمح، والذرة، والبرسيم. حَكَت لي طفلتي وقتها أن فراشات "أبو العيد"، تحط على أنوفهم الصغيرة في الفسحة..

تشاء الأقدار أيضا أن يمر طريقنا للمدرسة كل صباح بالغدير. كنا نخرج مبكرين حتى يتسنى للصغيرة مراقبة أبي قردان وهو يلتقط الدود من الطين الأسمر الحي. والهداهد وهي تنظف ريشها فوق أحجار القناية.

كنا نعود متأخرتين للبيت أيضا لنفس السبب.

في العام التالي، ردموا نصف القناية، في إطار خطة لم أفهمها للآن. ونصف "أم الشعور". وفي العام الذي تلاه أزالوا الأنصاف الباقية.

حينما وُلِدَ إبني، بِيعَت الشونة. إختفت الأجولة والجرار والميزان، وخشب الصناديق. وفي العام التالي بيعت أشجار السنط، وهُدِمَت غرفة الخفير.

حينما التقطتُ هذه الصورة، كانت ابنتي طولي تقريبا، وطفلي يسير قربي بساقيه الصغيرتين الهزيلتين، وكان قد أصبح لدي موبايل بلاك بيري. وقفتُ بهما أحاول استرجاع الصورة القديمة للمكان في رأسي. حتى السحالي والفأرات رحلن. إلتقطتُ الصورة لعلمي أن حتى الكافورة ستُقطَع.تناثر حولها زيت السيارات وأكياس القمامة .. "الحي اتعَمَّر".. "المنصورة داون تاون"، القبح الحديث يزيح الماضي.

رَحَلَت الكافورة منذ عام

والليلة أخبرني زوجي بأنهم جَدّدوا مباني المدرسة أيضا، وقطعوا أشجارنا القديمة من حولها ..