أحَبُّ أوقات القراءة إلى نفسي، سواء من كتاب ورقي أو إليكتروني، تلك التي أقضيها مساءً في الشتاء على سرير بغرفة أطفالي، أسموه مجازا: السرير المطاطي. نظرا لأنه السرير الوحيد ببيتنا الذي له حشية من المطاط والالياف والأسلاك الملتوية النطاطة، التي تسمح لك بالغوص في مكانك بمجرد الجلوس. البقية من قطن التنجيد.
المكان دافيء وحميم حقا، تبعا لاتجاه السرير من تيارات الهواء، وسر حبي للموقع. كما أنه بجوار السرير مكتب صغير مازال لخشبه رائحة بِكْر، رغم قِدَمه. فوقه أغراضنا اللطيفة المؤنسة للجلسة، المصباح الأبيض بقبعته ذات اللون الناعم، الأقلام المتنوعة، والكتب، والمجلات، والكراسات الفارغة التي تناديك لتكتب وترسم وتمرح وتسخط، وترسل الرسائل.
هناك أكواب القهوة طبعا، والقرفة، والنعناع، ربما طبق للبسكويت، أو قطع البرتقال، أو الموز بالزبادي، أو شطيرة الجبن بالزعتر. كل ذلك يمكنني إدراك رائحته وملمسه، وتمييزه عن بعضه، في اللاوعي وأنا أقرأ. إلا رائحة واحدة هاجمتني منذ شهر لا أعرف لها مصدر.
في البداية لجأت للحيلة المعهودة، تفتيش المكان. لا شيء. كلما تقدّم البحث حثيثا اختفت الرائحة. ثم ما ألبث أن أتعب، ووقتي يضيع، فأنصرف، وأعود، أنسى، أقرا.. تعود الرائحة. رائحة عطرة نضرة خضراء طازجة.. كأن أحدهم فَرَك أوراق الريحان في هذا الركن، او زرَعَ بذوره تحت السرير..
أنهض عن مكاني وأسأل المحيطين، هل يشمها أحد غيري؟ .. مش عارفين يا ماما..
أشم أوراق الكتب، والحائط، وأسلاك شاحن الهاتف، ملابسنا المعلقة على المشجب، وداخل الدولاب ..
لا شيء..
لا عطر يشبهها ..
بالأمس، وأنا أقرأ، وقد نام البيت، وعلا صوت غطيط المُرهَقين، وجدتني أستسلم، أستمتع بالرائحة ببساطة وعمق.. دون جدل أو سؤال أو بحث عن الحقيقة..
بدون خيال خاص يؤوّل أو ينفّس عما بداخلي .. فقط أستَسلم .. أستمتع .. أأتنِس
أطفأتُ المصباح، ومازالت الرائحة بأنفي قوية.. نمتُ مكاني ورأيتُ في الحلم ربيعا وحديقة ..
شكَرتُ الرائحة في نفسي
أرسلتُ لها التحية أيا كان مصدرها
ونويتُ أن أصاحبها بأقل ضجة، وأكثر متعة ممكنة، إلى أن ترغب في الكشف عن نفسها، أو الرحيل.
شكرا لها..
# بعض المسافات ممتعة